نص نثري: حول الصورة والمعنى.

 

حين تجذبك الصورة، عليك فورًا أن تركض لتبحث عن المعنى، وإلا فإنك تعرض نفسك لعملية نصب محتملة. خداع. يمكن أن تنخدع بالصورة وحدها، ويمكن كذلك أن يعطيك المعنى للوهلة الأولى دلالة كاذبة. الأمر يستغرق منك بعض الوقت لإقناع المعنى بإعطائك شيئاً ما حقيقيًا عن الصورة تلك.

 

-١-

 

فكَّر معي قليلًا…

مصور يعمل في مجلة ما، يتجول في غابات أفريقيا بحثًا عن لقطة مميزة، يصادف في تجواله أسدًا يافعًا، في تمام زينته، له هيبة جبارة، يلتقط المصور الصورة تلو الأخرى للكنز الذي وقع عليه، ويختار في الأخير واحدة من تلك الصور، الأفضل بطبيعة الحال، تصبح الصورة شعاراً للقارة بأسرها، تنتشر على نطاق واسع مذيلة بتعليقات قصيرة: “ملك الغابة”، “ملك أفريقيا”..

علَّق على الصورة كيفما شئت، لكن فكَّر معي قليلًا في قصة الذكر الجبار هذا، ولماذا كان بمفرده وقت التقاط الصورة؟ ماذا تخبئ الصورة؟ وما الحكاية التي من الممكن أن ترويها علينا؟

فكّر معي.. قبل لحظات، خاض هذا الأسد عراكًا عنيفًا مع أبناء جلدته، آباؤه وإخوانه، لم ينتصر، وتم طرده من الزمرة. فكَّر قليلًا؛ هذا الأسد، ملك أفريقيا، المتوج على عروش صفحات المجلات والجرائد تم تصويره في لحظات يأس وحيرة.

بينما ينظر الجميع إلى الصورة، ويبدي اعجابه بهذا الشرس القوي الجامح، يفكر هو نفسه في الاحتمالات المطروحة أمامه.

لتبحث عن المعنى عليك أن تذهب بعيدا، لتلتقط فكرة ما عليك أن تلمس حدودها الأربعة، أن تعثر على المتناقضات بداخلها، وأن تضع العلامات الفاصلة بين كل منها، وتسميها بأسماءٍ واضحة، لذا دعنا نذهب ونفكر في الاحتمالات المطروحة أمام الأسد، المطرود للتو من نعيم الزمرة.

تعيش الأسود عادة في جماعة، تملك كل جماعة مساحة محددة ومعروفة من الأرض محاطة من الجهات كلها بعلامات أقل ما يقال عنها بأنها علامات مقدسة. لكل زمرة حاكمها، لا تتعجب حين تعرف أن من يسن القوانين في تلك الجماعات هن اللبؤات.. لكن دعنا أولاً نفكر في مسألة المساحة. خارج المساحة المألوفة لكل زمرة، ثمة مساحة موازية تقريبا لزمرة منافسة، إذن- بداية- لن يكون بمقدور هذا الأسد أن يبقى داخل مساحة زمرته. تفكر الإناث بأنه “وقد كان المفضل لبعضهن ولجميع الأشبال في الزمرة” قد يفسد نظامهم بخروجه الصارخ عن القوانين المسنونة والمستقرة، ولا عجب في هذا، الإناث يجذبهن النظام والقوة، وهن الأكثر بين أفراد الزمرة التزاما بالنظام والاكثر انحيازا للقوة اَي كان من يمثلها، هذا الأسد المتوج -المطرود للتو- أراد أن يضع قانونا بديلًا. يمتلك الأدوات نفسها التي تمكنه من المنافسة: براثن قوية. شجاعة مثيرة للإعجاب. إنتماء لا مثيل له. لكنه يمتلك عيب خطير وفادح -كما لاحظت الزمرة- له قلب/ يحب ويكره، يميز ويختار..

آثر هذا الذكر الخروج عوضًا عن الاقتتال، الاقتتال الذي يُمنَح بموجبه كل شيء؛ الأكل. الجنس. العرش. المكانة الاجتماعية بين أعضاء الجماعة. حلم الأسد كما لم يحلم أسد آخر غيره، بأن تنجذب له اللبؤات- أو واحدة منهن لرجاحة عقله، لوسامته، أو لقلبه غريب الشأن هذا، لكن اللبؤات (تذكر هذا جيدا) لا تخرجن أبدًا عن الناموس.. النظام/ القوة.

سيتعين على هذا الأسد أن يحيا تماماً على الحافة، في الحدود الفاصلة بين الزمرتين، مستخدماً حيلة ذكية؛

إذا هاجمته زمرته سيلتحق بالناحية الأخرى، وإذا هاجمه الآخرون سيعود لحدود زمرته القديمة. سيحيا دائما في المنتصف.

أحد الاحتمالات؛ أن يقتحم زمرة ما، ضعيفة كانت، أو قوية، أن يفرض قواعده، وأن ينشئ مملكته الخاصة، هذا الإحتمال يخضع لنفس الشرط الذي آثر بسببه الخروج عن زمرته: الاقتتال.

لذا -ومن الآن فصاعدًا- سيعيش الأسد في وحدة موحشة وقاتلة.

من اعتاد الجماعة لن يألف العيش وحيدا بسهولة ويسر، سيتعين عليه الاصطياد بمفرده، سيتعين عليه الصمت حين يجن من الهياج/ حين يجوع/ حين يحزن.. سيموت بشكل تدريجي، وببطء.. لكنه الآن لما يزل في كامل عنفوانه، لما يزل غضبه حاضرًا وبقوة، لما تزل كرامته ممتلئة عن آخرها، مظهره أنيق ومرتب، لم تخدش الوحدة بعد صورته التي أصبحت -بالصدفة البحتة- شعارًا للقارة السمراء بأسرها- دائما مذيلة بعبارة قصيرة “ملك الغابة.” لم يكن، ولَن يصبح أبدًا.

 

-٢-

فكَّر معي في نموذج آخر؛ لا يتعلق بالصورة قدر ما يتعلق بالمعنى.

محمد علي. شاعر. رأيته في مناسبات عديدة كمرافق لشعراء وكتاب المدينة، معرف بصورته ومعناه: محمد علي. شاعر.

إذًا، لا حاجة للركض خلف الصورة أو خلف المعنى، لكن في تلك المساحة التي تبدو كمساحة مريحة تبرز علامة استفهام كبرى، لم اقرأ سطرًا واحدًا لمحمد، كان يرافق الشعراء، لكنه لم يتخذ لنفسه هيئة مثل هيئتهم ولا طباعًا مثل طباعهم، لم يكن حاد المزاج، لم يكن غضوباً، ولا مختالاً بانجازاته التي لا يعول العالم كثيرا عليها، كان صامتاً وحسب. وكانت صورته لا تتطابق كثيرا مع طباعه تلك. الحقيقة لم أفهم محمد كما ينبغي، لا ينفعل أبدًا، ومن ثم فإنه لن يثير لديك ولو انفعالاً واحدًا. بعد فترة من الوقت، وبعدما تألف تلك الغرابة، وتبدأ في ربط الصورة بالمعنى، بشيء من الراحة، ولأنه لا ينفعل، ولأنه صامت دائما، تظن أنك قبضت على الحقيقة كاملة.

محمد يقول لا. بطريقة أو بأخرى، يتخلى عن الحياة في غرفة بمنزله الواقع ببلدته التي لا اعرف موقعها! محمد يفاجئ الجميع، يصدر الخذلان للكل، يفتح جراحاً قديمة، يثير كل الانفعالات مرة واحدة في وجهك، يفتح الباب على مصراعيه أمام سيل من الأسئلة التي لن يجيب عليها أبدًا.

تعود، ترغب في بعض الوقت، ترغب في استنطاق المعنى/ المأسآة.

أي حدة قد تحصل عليها محمد؟ أي قوة قد جاهد لإخفائها؟

 

تفكر. تذهب معه. لم يسأله أحد قط لماذا يصمت؟ لم يلح عليه أحد في السؤال. رافق الشعراء ليل نهار ولَم يقرأ عليهم قصيدة واحدة، لم يتلو على واحد منهم حلم يراوده، أحبوا طيبته، لأنه كان يقبل دون ممانعة، ولأنه لم يواجههم أبدًا بخذلانهم له، أحبوه وأسموه شاعرا، مثلهم تمامًا. هاجم صورته التي أعطموه إياها. بحث عن الحيلة الذكية. إختبأ. فكَّر. وفعلها على طريقته.

شاعر؟ الشاعر يموت هكذا. يكتب هكذا. يعترض هكذا….

محمد كان شاعرًا بحق، صورته ومعناه خفيان، حقيقته بعيدة وملغزة.

أراد محمد أن يعطي بعدًا ثالثا للمعادلة: الوقت.

وانت تنجذب لصورة ما، وأنت تلاحق المعنى ، انظر دائمًا لساعتك، فكر قليلا: كم تبقى لدي؟ الوقت. لا تنسى يخبرك محمد. الوقت.

وإلا فإنك تعرض نفسك لخيبة قد لا تتعافى منها أبدًا…

 

 

(العريش- 2018)

 

Leave a comment